مئويّة أسفار عبد البهاء
قبسات من سجن دام أربعين عاماً
حوار مع عبد البهاء أجرته صحفية من مجلة ”الميزانية الأسبوعية”
بتاريخ ٢٣ سبتمبر/أيلول ١٩١١
قضى حضرة عبد البهاء ما ينوف على خمسة وخمسين عاماً بين نفي وسجن. الحوار التالي يقتصر على وصف جوانب من سنوات سجنه الذي دام أربعين عاماً وحدها.
في أحد المساكن الواقعة في ناحية ”حدائق كادوجان“ يقیم رجل روحاني أتى من الشرق، فكان وروده إلى لندن منذ قليل همزة وصل بين الشرق والغرب.
وقد حققت بالفعل تعاليم عبد البهاء امتزاج آلاف من أبناء وبنات هذا البلد بأقرانهم المنتمين إلى مختلف أقطار الشرق، على أسس العون المتبادل وروح الأخوة والعبودية لله، بغض النظر عن المذهب والعقيدة، وتعاهدوا بحزم ومحبة أخوية، على عكس ما تنبأت به نظريات بعض الشعراء والفلاسفة المتشائمين.
أمضى عبد البهاء معظم سنوات حياته في أحد السجون الشرقية، مفضلاً تحمل مكارهها على إنكار دينه الذي من بين ما ينادي به المساواة الكاملة بين الأنام بغض النظر عن اختلاف صفاتهم الجسدية مثل الجنس واللون، وأن فضل الإنسان بالخدمة وإظهار المحبة الأخوية. وبسبب هذه المبادئ وأمثالها قضى في السجن أربعين عاماً في مدينة عكا الحصينة بفلسطين.
وعندما طلبتُ لقاءه أوصيتُ بالحضور مبكراً، فحضرت في الساعة التاسعة لإجراء الحوار، ولكن كان ذلك الوقت بمثابة الظهيرة بالنسبة لعبد البهاء الذي نهض عن فراشه في الساعة الرابعة،والتقى بثمانية عشر شخص قبل تناول فطوره في الساعة السادسة والنصف. وكان في انتظاره في غرفة الاستقبال قوماً من جنسيات عديدة ولغات مختلفة.
كنا جالسين على شكل دائرة في مواجهة عبد البهاء وبادرنا مستفسراً إن كان لدينا سؤالاً نود عرضه، فأجبتُه بأن محرر جريدتي كلفني بالحصول على وصف لحياته في السجن. فروى عبد البهاء على الفور ،ومن دون تكلف، روى عبد البهاء أروع قصة يمكن تصوره:
في سن التاسعة من عمري، كنت في صحبة والدي، بهاء الله، في طريقه إلى منفاه في بغداد. ومعنا سبعون من أتباعه. كان الغرض من قرار” نفيه الذي صدر في أعقاب اضطهاد شديد متواصل القضاء نهائياً على ما اعتبرته السلطات في إيران ديناً خطيراً. فأبعد بهاء الله وأهل بيته وأتباعه من موضع إلى آخر. وعندما بلغت من العمر خمسة وعشرين عاماً طُلب منا الانتقال من القسطنطينية إلى أدرنة ومنها ذهبنا بحراسة عسكرية إلى مدينة عكا المحصنة حيث دخلنا السجن وفرضت علينا حراسة شديدة“
الصيف الأول
لم يكن لنا أي اتصال بالعالم الخارجي. وكان الحرس يفتحون كل رغيف من الخبز للتأكد من أنه لا يحوي أية رسائل. كل من كان يؤمن يالدين البهائي من أطفال ورجال ونساء كانوا سجناء معنا. كنا مائة وخمسون شخصاً معاً في غرفتين ولم يكن مسموحاً لأحد منا بالخروج إلاّ لأربعة أفراد فقط يذهبون إلى السوق في كل صباح تحت الحراسة لابتياع بعض المطالب.
كان الصيف الأول مروعاً، فعكا مدينة موبوءة بالحمى حتى قيل أن الطائر الذي يحلق في سمائها لا ينجو من الموت. وكان الغذاء رديئاً وغير” كاف، والماء مستخرج من بئر ملوثة بجراثيم الحمى، كانت أحوال المعيشة وكان مناخ المدينة من الصعوبة بمكان حتى أن أهل البلاد كانوا أيضاً ضحايا للمرض، وسقط كثير من الجنود مرضى وقضى الموت على ثمانية من حراسنا العشرة. وفي أثناء الحر الشديد، هاجمت الملاريا والتيفود والدسنتاريا السجناء فسقط كل الرجال والنساء والأطفال مرضى ولم يكن هناك أطباء ولا دواء ولا غذاء مناسب ولا علاج من أي نوع.
”كنت أقوم أنا بعمل المرق للناس“، ثم قال عبد البهاء ضاحكاً، ”وبما أني اكتسبت خبرة طويلة كنت أهيء مرقاً طيباً.“
وذكر أحد الإيرانيين أنه بفضل صبر عبد البهاء العجيب ومساعداته وشدة تحمله سُمي ”السيد”. كان من السهل الحسّ بهذه ”السيادة“ من انفصاله عن الزمان والمكان وانقطاعه الكامل حتى من البلاء الذي كان في مقدور سجن تركي إنزاله.
تحسن الأحوال
بعد مضي عامين من أشد الضيق سُمح لي للبحث عن مسكن لكي نعيش خارج أسوار السجن ولكن في داخل الحصن. ولم يُسمح للعديد” من المؤمنين الذين حضروا من إيران ليلحقوا بنا بالبقاء. مضت تسع سنوات كنا خلالها حيناً في حالة لابأس بها وأحياناً في أوضاع أسوأ كثيراً، تبعاً لشخص الحاكم؛ فإن حدث وكان طيب القلب ومتساهلاً كان يسمح لنا بمغادرة الحصن ويتيح للمؤمنين حرية زيارة البيت؛ ولكن إن كان الحاكم متشدداً كان يضيف مزيداً من الحراس حولنا، ويردّ الزائرين الذين حضروا من بعيد على أعقابهم.“
علمت فيما بعد من أحد الإيرانيين الذين كانوا في تلك الفترات العصيبة ضمن بيت عبد البهاء، أن الحكومة التركية لم يكن في مقدورها أن تتصور أن مقصد الزائرين الإنجليز والأمريكيين كان روحانياً بحتاً وليس سياسياً. وفي أحيان كثيرة كان هؤلاء الزائرين يمنعون من رؤيته وكثيراً ما كانت الرحلة الطويلة من أمريكا لا تحظى إلاّ بنظرة خاطفة ل عبد البهاء من غرفة سجنه.
وكانت الحكومة التركية تعتقد أن مقام حضرة الباب وهو مبنى مهيب على جبل الكرمل هو حصن بُني بمساعدة أموال أمريكية ويجري تسليحة وتزويده بالزخيرة سراً، ومع قدوم كل زائر جديد كانت تزداد هذه الظنون ومعها يزداد عدد الجواسيس والحراس.
لجنة عبد الحميد
قبل عام واحد من الإطاحة بسلطانه، أرسل عبد الحميد لجنة تحقيق شديدة الغطرسة والغدر والامتهان. كان رئيسها ”عارف باي“ أحد أعوان” الحاكم ومعه ثلاثة قادة عسكريين برتب مختلفة.