مئويّة أسفار عبد البهاء
زيارة عبد البهاء لمدينة لندن
كانت أوروپا في السنوات الأولى من القرن العشرين تخطو في طريقها إلى نفق طويل من الأزمات؛ أزمات بلغت حدتها قدراً من القوة بحيث غيرت الدور القيادي الذي كانت تقوم به أوروپا في تحديد الوضع السياسي للأمم الأخرى، وبدلت قيم أهلها وأخلاقياتهم، وجزّأت الوحدة الوطنية لشعوبها، وضاعفت أعداد الأقليات المتخاصمة في أرجائها، ووطدت تحول ولاء الأوروپيين الديني إلى ثقة مفرطة في قدرة العلم والمال على شغل مكان الدين؛ أزمات أسلمت الأوروپيين أخيراً رهائن للمادية المتطرفة وأسرى للمحسوس، وفي النهاية أودت بهم إلى حروب ودمار لم يسبق لهما مثيل في التاريخ.
وما ذلك إلا نموذجا مبسطا لبعض الميراث السلبي الذي خلفته الثورة الصناعية – من دون إنكارللفوائد الجمة التي قدمتها – ولكن من الإنصاف أن نقرر أن انحصار معظم التغيير الذي أوجدته الثورة الصناعية كان محققا لمنافع مادية بحتة، ونظراً لغياب القيم المعنوية والمبادئ الإنسانية الموازية لذلك التغيير اختلّ توازن الحضارة الحديثة بدرجة خطيرة تحت طغيان المادية، فولّد التوسع الصناعي أمثلة إضافية من عدم المساواة، سواء بين الطبقات الاجتماعية في الدول الصناعية، أو فيما بين هذه الدول وبين شعوب مستعمراتها المغلوبين على أمرهم. فعاقت هذه العوامل إعادة بناء العالم على أساس قيم جديدة ولم تترك فرصة لتجنب العنت والاضطراب والعنف.
ومن الإنصاف أيضاً الإقرار بضياع فرص كان في مقدور ساسة العصر ومفكريه انتهازها لتجنب الكثير من النكبات في مختلف الميادين لو أنهم أنصتوا إلى صوت الحكمة الذي علا ناصحاً ومحذراً من الكوارث اللاحقة.
ولعلنا لا نبعد عن لبّ الموضوع بذكر بعض لمحات من تلك الأزمات بقصد رسم صورة مقربة إلى الذهن عن أوضاع وأحوال أوروپا عندما زار عبد البهاء تلك القارة:
➢ فمن بداية القرن العشرين اجتاح أوروپا سباق على التسلح استعداداً لحرب محتملة بسبب التحدي الذي أظهرته ألمانيا وروسيا لهيمنة فرنسا وانجلترا على الأسواق الخارجية وسيطرة الأخيرة على الطرق الملاحية، مما أضاق الأسواق أمام الصناعات الألمانية، كما حرم اشتراكهما إلى جانب تركيا في حرب القرم من حصول روسيا على موانئ مطلة على المياه الدافئة. فاضطرت بريطانيا وفرنسا إلى التوصل لوفاق ودي بينهما لتنسيق خططهما العسكرية استعداداً لحرب محتملة ضد ألمانيا وروسيا.
➢ وغزا مبدأ الحكم الدستوري النُظُم السياسية الداخلية وساد في معظم دول العالم كبديل للحكم المطلق وبلغ أعتى الممالك في الحكم الاستبدادي مثل السلطان الفارسي، أحمد ميرزا، في عام ١٩٠٨، وتركيا حيث أرغم السلطان عبد الحميد على إعادة الدستور في عام ١٩٠٩. ولكن أحال دهاء وحنكة الساسة آمال الشعوب سراباً أكثر منها حقيقة، فعادت في معظم الممالك سيطرة الطبقة الحاكمة، وعادت مظاهر استبداد السلطة وفساد الخاصة إلى شبه ما كانت عليه الحال في ظل الحكم المطلق.
➢ وفي المجال الفكري توطد في البلاد الأوروپية الاتجاه الفاصل بين الحياة العامة والشئون الدينية، بينما اتخذت البلاد الشرقية طريقاً معاكساً يدعو إلى إقحام الدين في التشريعات الداخلية. ولم تكن أوروپا في ذلك الوقت خالية من الاتجاهات المتطرفة حيث ظهرت في الفنون والآداب حركات تروّج للتعصب الوطني والروح العسكرية اشتهرت من بينها أفكار الشاعر والكاتب الإيطالي مارينتي المنادية بخلق صور جديدة للجمال مستوحاة من الحركة الديناميكية للقرن العشرين المتولدة من سرعة واندفاع الآلة، وساعدت هذه الحركات على ظهور النظم الفاشيستية والنازية وربما كان لها تأثير في بروز دور العنف في النشاط السياسي.
➢ أما في المجال الاجتماعي فقد أدى تحدي الأفكار الاشتراكية للأعراف التقليدية إلى اهتمام المجتمع المدني بمشاريع الإصلاح الاجتماعي ليملأ الفراغ المتخلف عن ضعف دور المؤسسات الدينية بعد نقص واضح في مستوى مواردها المالية والبشرية. فازداد الوعي الاجتماعي والإحساس بمسئولية المجتمع ككل ليكفل لأفراده حياةً كريمة وقدراً ضرورياً من العناية الصحية. ولكن لم تستطع الحكومات بمواردها المحدودة من تحمل تكلفة هذه المطالب ورفض أصحاب الصناعات دفع تكاليفها وبذلك خُلقت فجوة بين الوعي الاجتماعي والإمكانيات الفعلية للحكومات وأسفرت عن توتر اجتماعي جديد لم يتوقف عن الازدياد.
➢ وفي مجال التكنولوجيا افتتح اللاسلكي في عام ١٩٠١ عهداً جديداً في الإتصالات والإرسال الإذاعي والمحطات الفضائية، بعد أن نجح ماركوني في إرسال أول إشارة لاسلكية من القارة الأوروپية إلى كندا عبر المحيط الأطلسي. الأمر الذي هيأ الأرضية لتبادل الأنباء حول العالم في سرعة البرق، وساعد على تقارب الأفكار وانتشار المذاهب الفكرية والسياسية، حسنة كانت أو سيئة، بذات السرعة، فاسفرت عن نتائج متفاوتة تبعاً لنضج الشعوب ومدى انتشار التعليم بين أبنائها.
➢ وقدمت آراء سيجموند فرويد فهماً جديداً للصحة البدنية والعقلية واللاوعي والأحلام، وكان لآرائه تأثير واضح في العلاقات الاجتماعية والنظام الاجتماعي ونقلت البحث في عقل الإنسان وروحه وإيمانه من ميدان الفلسفة إلى المجال العلمي.
فإلى جانب الإيجابيات التي أضافتها أفكاره في المجال العلمي والطبي، أنتجت آراؤه سلبيات صدمت الكثير من العاملين في الحقل الاجتماعي في عصره لتجاهلها دور الدين في تكوين شخصية الإنسان وتهذيب سلوكه وزيادة قدرته على التحكم في ميوله وغرائزه الطبيعية. وقد أدت أفكار فرويد إلى هجر الدين لدى الكثيرين ممن عارضوا التصلب السائد في الفكر الديني ملتمسين بذلك تحرير حياتهم الشخصية من أحد مصادر الشعور بالذنب والصراع الداخلي الذي يحول دون تنمية مواهبهم الطبيعية واستخدام إبداعهم. وعلى الرغم مما صادفته أفكار فرويد من تطور منذ بدايات القرن العشرين فإنها من دون شك أثارت كثيراً من الجدل في داخل وخارج الأوساط المتخصصة.
هذه الظروف مجتمعة كانت كافية لتلقي بالأوروپيين في بحر مضطرب بالقلاقل تحت ضغط سباق التسلح والإعداد للحرب، والتنافس بين الدول الصناعية على الأسواق الخارجية، وصراع داخل الدول الصناعية بين طبقات اليد العاملة الفقيرة وطبقات أصحاب رؤوس المال والمستثمرين الثرية، وتمرد أهل المستعمرات على الحكم الاستعماري للظلم الواقع عليهم، وتوتر متزايد بين الحكام والمحكومين لاختلافهما في تفسير وتطبيق الأحكام الدستورية لما يحقق الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية، ونضال سافر بين فئات تريد استبعاد الدين من كل من الحياة العامة والخاصة وفئات أخرى ترى ضرورة التمسك بأهداب الدين، وتراجع قوى المؤسسات الدينية إزاء تقدم الأفكار العلمانية والاشتراكية والجديد من النظريات العلمية.
كانت هذه أوضح الأعراض المنبئة عن أن سنوات من التحدي ستطل قريبا على العالم في الوقت الذي زار فيه عبد البهاء أوروپا في عام ١٩١١. وكانت في ذلك الوقت لاتزال مركز السياسة العالمية ومهد الحضارة الفكرية الحديثة. وبمجرد قدوم حضرته إلى مدينة لندن في الرابع من شهر سبتمبر/أيلول ذاع خبر وصوله بدأت أفواج الزائرين ترد إلى مقره للتعرف على آرائه وتعددت الدعوات لسماع أحاديثه.