مئويّة أسفار عبد البهاء
الحركة دليل الحياة
/ كانون أول ١٩١١ من جولته في لندن وپاريس لقضاء فصل الشتاء في مدينة الأسكندرية والإعداد لسفره في العام التالي الى أمريكا وكندا. واستمر وفود الزائرين والمستفسرين إلى منزله طوال ذلك الشتاء حتى إذا ما حلّ الاعتدال الربيعي كان على استعداد لرحلته، فاستقل حضرته ومرافقيه يوم ٢٥ مارس/آزار ١٩١٢ ظهر الباخرة الإيطالية سيدريك في طريقهم إلى أرض العالم الجديد، بينما وقف المودعون على رصيف الميناء يعلو وجوههم الوجوم والقلق بسبب هذا السفر الطويل المحفوف بالأخطار. عاد حضرة عبد البهاء في شهر ديسمبر
وأبحرت السفينة في مياه البحر المتوسط من دون مفاجئات وبينما كانت تقترب من ناپولي تحدث حضرة عبد البهاء إلى المسافرين بإيجاز عن المبادئ الجديدة التي دعا إليها حضرة بهاء الله وأخبر مستمعيه عن مرامها وسعيها الحثيث لتحقيق وحدة الإنسانية وإزالة كل أسباب التفرقة من بين بني الإنسان حتى يمكن تحقيق السلام العالمي، فذكّرهم: ”لهذا جاء جميع الأنبياء لتعليم المحبة وكان الدين الإلهي أساس الألفة والمحبة ولكن، ويا للأسف، جعل الناس كل ما كان سبب الألفة والمحبة علة العداوة، وحدثت باستمرار حروب متنوعة سواء كانت حروباً عرقية أم حروباً دينية أم حروباً سياسية أم حروباً وطنية مع أن النوع الإنساني كله جنس واحد … وجميعهم أهل وطن واحد لماذا يختلفون ولماذا يتحاربون.“*1*
ولكن ما أن بلغ حضرته أرض العالم الجديد حتى أفاض في تفصيل هذه المبادئ وتأثيرها في نفوس البشر، وتغييرها لشئون العالم، وهي عموماً تمثل مجموع الروابط الأساسية التي يقوم عليها جوهر الوجود الإنساني، والتي بها يرقى الإنسان إلى معارج الكمال ويصل الوعي الإنساني إلى مرتبة الرشد والبلوغ.
رابطة الكائن بموجده
وتأتي في المقام الأول من بين هذه الروابط رابطة الحقيقة الإنسانية بالحقيقة الموجِدة لها، من دون تجاهل أولئك الذين قد يصعب عليهم أن يعقلوا وجود الحقيقة الألوهية لمجرد أنّ مدارك الإنسان الحسية لا تبلغ إلى علاها، فربما كان العديد منهم لا ينكرون وجود الألوهية بقدر رفضهم للتصورات الشائعة عنها، وربما كانوا أقرب إلى الصواب ممن يتوهمون إحاطتهم بالألوهية وصفاتها.
فعدم قدرة الإنسان على إدراك الألوهية هي حقيقة ثابتة لأولي النُهى مادام ناموس الوجود قد أقام التفاوت في المراتب مانعاً من إدراك كائنات المرتبة الأدنى لصفات وكمالات المراتب التي تعلوها، فأهل كل مرتبة لا يحيطون إلاّ بأحوال وخصائص مرتبتهم والمراتب الأدنى منهم. وعلى ذلك لا يدرك أهل مملكة الحيوان، مهما بلغ تقدم ذكائهم، من شئون البشرية وصفاتها المعنوية شيئاً، وبالمثل يستحيل لأفراد العالم الإنساني الإحاطة بصفات وشئون الملأ الأعلى وما علاهم من مراتب الغيب.
فصفات الرحمة والقدرة والمحبة والهداية وغيرها من الصفات التي يدركها ويعيها الإنسان لا تتعدى ما يمكن أن يتجلى منها في مرتبته باعتبارها صفات إنسانية ولا تمت بصلة إلى كمال وعلو صفات الحقيقة الغيبية التي تتعدى الحدود التي تقف عندها قدرات عقل الإنسان ومداركه.
ووجود حدود لمدارك الإنسان وقدراته العقلية لا تعني عدم وجود الحقيقة الإلهية، ولا يجوز أن تُتخذ ذريعة للشك في هذا الوجود الذي يُستدل عليه بالعقل وبالعلم وبالتأمل الفطرى فضلاً عن تعاليم الأديان السماوية التي بفضلها مجتمعة بلغ الإنسان موضعه الحالي من المعرفة والتّحضّر والقيم الأخلاقية السامية. ولن نتعرض لمناقشة هذه الجوانب في المقال الحاضر المخصص للتذكير بأحداث رحلة عبد البهاء إلى أمريكا الشمالية.
ويكفي أن نعيد إلى الأذهان ما لا ينكره التاريخ: إن الأنبياء لم يكذبوا القول ولم يفتروا ما حملته رسالاتهم من أخبار وأحكام وتعاليم شملت كثيراً من المعارف والفضائل التي جهلتها الإنسانية إلى أن أعلنوها، ولا شيء يبرر الشك في تأكيدهم المتكرر بأن ما قالوه وأظهروه لم يكن من عندهم بل تلقّوه جملة وتفصيلاً من مصدر علوى، ولكنه غيب منيع لا ترقى إلى عرفان كنهه مدارك مخلوقاته.
رابطة الوحدة الإنسانية
لرباط الأخوة الآدمية أكثر من أساس واحد حيث أنه يقوم على شعور التضامن النوعي بين أفراده، كما تمليه على الناس مصالحهم المادية وثقافاتهم المتشابهة ودواعي أمنهم، وكذلك يدعوهم إلى هذه الأخوة والوحدة الإنسانية الولاء للذي فطرهم وسواهم، مع تفاوت في درجات هذه الأسس وفي قوة أواصرها وطول زمنها.
وبيّن عبد البهاء هذه المسائل بقوله: ”أملنا وحدة العالم الإنساني وهدفنا الصلح العمومي. إذاً نحن متحدون في الهدف والأمل وليست في عالم الوجود مسائل أهم من هاتين المسألتين لأن وحدة العالم الإنساني سبب عزة النوع البشري والصلح العمومي سبب راحة جميع من على الأرض ولهذا فنحن متحدون بخصوص هذين الهدفين ولا يوجد هدف أعظم منهما.“ *2*