مئويّة أسفار عبد البهاء
سفر عبد البهاء إلى أوروبا
سفر عبد البهاء من مصر في عام ١٩١١ قاصداً القارة الأوروبية فتح طوراً جديداً في تقدم أمر الله نحو أهدافه العالمية، وعلى رأسها وضع القواعد المكينة التي سيرتفع
عليها بنيان الوحدة بين الشرق والغرب لجمع شتات أجناس الكرة الأرضية في أسرة واحدة مستظلة بسدرة البقاء. كان هذا السفر بمثابة نهر من النورالمتدفق من الأرض التي بزغ فيها لينشر إشراقه في آفاق متعطشة بالشوق إلى لقائه.
عرفنا من الصحف المصرية وغيرها من الوثائق أن حالة حضرة عبد البهاء الصّحيّة، عند وروده على مصر لم تسمح له بمواصلة سفره إلى بلاد الغرب واستلزمت تأجيل سفره، وبعد أن استشفى في هواء مدينة الأسكندرية لما يقرب من عام، وفي يوم ١١ أغسطس/آب ١٩١١ على وجه التّحديد توجّه حضرته إلى ميناء الأسكندرية مصحوباً بعدد من البهائيين. كان أكثرهم من المودّعين وقليل ممن سيستقلون مع حضرته الباخرة كورسيكا متوجهين إلى ثغر ”مرسيليا” الفرنسي على البحر المتوسط.
فيا ترى هل استدعت رؤية الميناء وأجواء السفر إلى ذاكرة بعض المودعين لحضرته والمصاحبين له ذكريات الأحداث العالمية العظيمة التي جرت خلال العقود الأربعة التي قضاها عبد البهاء في السجن؟ لقد شملت تلك الأحداث تغيير نُظُم الحكم، وتبديل النظريات السياسية، وتطوير المفاهيم الاقتصادية، وبدء ثورة صناعية ثانية، وإزالة هيبة مؤسسات دينية تليدة… وتغييرات كثيرة أخرى بحيث أضحت الأرض غير الأرض. لقد ورث عالم جديد عالم الآباء والأجداد الذي رحل عن الوجود، وهذه السفن البخارية في الميناء والنشاط الجاري على أرصفته شهود هذا التغيير.
ففي هذا الميناء نفسه رست في صباح يوم ٢٧ أغسطس/آب سنة ١٨٦٨ سفينة تحمل على ظهرها جمعاً من المبعدين من تركيا ليقضوا ما بقي من حياتهم داخل سجن عتيق في قلعة عكا الحصينة، وذلك بموجب فرمان ٥ ربيع الثاني سنة ١٢٨٥ الموافق ٢٦ يوليه/تموز سنة ١٨٦٨ الصادر من السلطان عبد العزيز، مجاملة منه لنظيره الطاغية الفارسي ناصر الدّين شاه الذي كان يقلقه انتشار دعوة بهاء الله واتساع نفوذها في إيران خوفاً من إيقاظها لوعي شعبه الغارق في سبات غفلته.
كانت مثل هذه المخاوف تعاود الشاه ورجال بلاطه حتى بعد إبعاد حضرة بهاء الله من إيران إلى بغداد في عام ١٨٥٣، ومنها بعد عشر سنوات إلى القسطنطينية ثم أدرنة لموقعها النائي على حدود ما بقي من الامبراطورية العثمانية في القارة الأوروپية، وبعد خمس سنوات في أدرنة وجد حضرة بهاء الله نفسه مبعداً مع أفراد أسرته وعدد من أتباعه مرة أخرى إلى معقل عكا الحصين.
كان عبد البهاء على ظهر تلك السفينة التابعة لشركة أوسترا-لويد، في معيّة والده الجليل وباقي أسرته. وقضى هؤلاء السجناء نهار ذلك اليوم في ميناء الأسكندرية إلى حين أن حملتهم سفينة أخرى في صباح اليوم التالي متجهة إلى حيفا – مع توقف قصير في كل من بورسعيد ويافا – على أن تقلهم من حيفا مركب شراعي إلى عكا. كان سفراً مليئاً بالمتاعب والمشقات فضلاً عن قسوة الأسر ومهانته لأبرياء لم يرتكبوا إثماً ولم يعصوا أمراً، ولكن كان جرمهم في نظر سلطان تركيا وشاه إيران خشوعهم وإيمانهم بدعوة إلهية جديدة وعدت بمجيئها صراحة الأديان السماوية السابقة ووَعَدت أن يكون من آياتها نشر العدل والسلام والأنوار الإلهية في الأرض بأسرها.
لم يأبه ملوك ورؤساء ممالك أوروپا للظلم الواقع على حضرة بهاء الله الذي لا تحمل دعوته إلى البشر إلاّ هدايتهم وخيرهم وسعادتهم، وقابلوا أنباء هذا الطغيان بدون مبالاة أو اهتمام. ولعل ما صرف السلاطين والملوك عن الظلم الشديد الواقع على هؤلاء الأبرياء لم يكن غريباً عن مضمون مبادئ الدعوة الجديدة التي ظنوا أنها تضعف سلطانهم بما تعلنه من أن حقوق الحكّام على رعاياهم مبررها سهرهم على تحقيق العدل فيما بين الرعية وتوفير السعادة والرفاهة في مجتمعاتهم، وتحقيق هذه الأهداف في هذا العصر الجديد يتوقف على توحيد الأسرة الإنسانية في ظلّ نظام شامل يحقق التآزر والتكافل بين مجموع البشر لإزالة الجهل، وإخماد نيران التعصب، والقضاء على الخلافات السياسية، والتخلص من المنازعات الدينية، وضمان ضرورات العيش الكريم لكل إنسان، ومنع الحروب، والتوفيق بين المصالح المتعارضة للأمم بتقديم المصالح الكليّة للإنسانية على المنافع الذاتية للدول والشعوب.
وقد أبان شوقي أفندي جانباً من هذا النظام بقوله: «إن وحدة العالم الإنساني المتجلية في رؤية حضرة بهاء الله تتضمن تأسيس اتحاد عالمي تتقارب فيه جميع الأمم والأجناس والطوائف والطبقات وتتحد اتحاداً دائماً، ويكون فيه استقلال الدول الأعضاء والحرية الشخصية للأفراد المكوّنين لهم وحقهم في المبادرة الفردية مضموناً بصفة كاملة وأكيدة.»1 هذه نبذة مقتضبة من القيم الجديدة التي أعلنها بهاء الله، والتي ربما وجس منها أولو الأمر عندما بلغت رسائل حضرته إلى الملوك والرؤساء فور وصوله إلى قلعة عكا.
هذه بعض الخواطر التي قد تكون قد مرت في ذهن البهائيين في ذلك اليوم عند ولوجهم إلى ميناء الأسكندرية بعد ثلاثة وأربعين عاماً من عيش مرير قضاها عبد البهاء داخل أسوار حصن عكا الحصين، الذي ورد إليه يافعاً وغادره شيخاً هرماً يعاني من عنت تلك السنوات. ولكن تبدلت خلال تلك السنوات الأحوال في العالم بتأييد من شديد القوى، وهم يرون عبد البهاء يهمّ بالابحار بكل عزّة واقتدار من الميناء نفسه الذي مرّ به في شبابه تحت ظروف مهينة وهو في طريقه إلى سجن عكا.
خاصة أن المودعين كانوا على علم بأن سفره هذا استجابة لالتماس العديد من البهائيين في أوروپا وأمريكا لزيارتهم، ودعم جهودهم في نشر الأمر الإلهي الذي أضحى أمل البشرية لبناء عالم جديد يسوده الصلح والصلاح، وتقوم أركانه على أسس العدل والمحبة والاتحاد في ظلّ تعاليم دينيّة جديدة تحقق الوعود التي حمل بُشراها الأنبياء والمرسلون.