مما كتب سابقا
شكيب أرسلان في التّعريف بحضرة عبد البهاء
كتب الأمير شكيب أرسلان في كتاب «حاضر العالم الإسلامي» في التّعريف بحضرة عبد البهاء :
«إنتقل إلى الدّار الآخرة عبد البهاء عبّاس، وقد ذرّف على الثّمانين. ،كان آية من آيات اللّه بما جمع الله فيه معاني النّبالة، ومنازع الأصالة والمناقب العديدة التي قلّ أن ينال منها أحد مناله، أو يبلغ فيها كماله، من كرم عريض وخلق سجيج، وشغف بالخير، وولوع بأسداء المعروف، وإغاثة الملهوف، وتعاهد المساكين بالرّفد بدون ملل، وقضاء حاجات القاصدين بدون برم، وإغاثة الملهوف، هذا مع علوّ النّفس، وشغوف الطّبع، ومضاء الهمّة، ونفاذ العزيمة، وسرعة الخاطر وسداد المنطق، وسعة العلم، ووفور الحكمة، وبلاغة العبارة، حتى كأنّ فصاحته صوب الصّواب، وأقواله فصل الخطاب، وكتاباته الدّيباج المحبّر، وقوله الوشي المنمنم، يفيض بيانه جوامع كلم، وتسيل عارضته سيل عارض منسجم.
يودّ اللّبيب لو أقام العمر بمجلسه يجني من زهر أدبه البارع، ويرد من منهل حكمته الطّيّبة المشارع، استولى من المعقول على الأمد الأقصى، وأصبح في الإلهيّات المثل الأعلى، وبلغ من قوّة الحجّة، وأصالة الرّأي، وبعد النّظر، الغاية التي تفنى دونها المنى، حتى لو قال الإنسان أنه كان أعجوبة عصره، ونادرة دهره، لما كان مبالغاً، ولو حكم بأنّه من الأفذاذ الذين قلّما يلدهم الدّهر إلاّ في الحقب الطوال، لكان قوله سائغاً.
ولقد كان يمكن أن يكون محيط فضله أوسع، وأفق علمه أنأى، لو عاش في إحدى العواصم الكبيرة التي يتسع فيها المجال لمثله، ويكون فيها المحيط على نسبة نباهة قدره، وسراوة نبله، ولكن ضاق الميدان على الفارس، وصغر الكرسيّ عن الجالس، واعتاض من سعة المحيط وعظمة المقرّ، بحسن أخلاق أهالي عكا وكرم طبائعهم وكونهم قدّروه وأهله قدرهم، وعرفوا نبلهم وأحلّوهم المحلّ اللاّئق بهم، فرفه بذلك عيشهم، ووفرت حرمتهم وذهبت حرشة غربتهم، ولانت خشونة نبوّتهم، ورافقهم إلى منفاهم هذا نحو مائة وخمسين شخصاً من أتباع طريقتهم من الإيرانيين، ليس فيهم إلاّ صاحب صنعة أو عمل، وهم جميعاً قائمون على خدمة هذا البيت الكريم، قد هجروا أوطانهم حبّاً بجواره.
وكان عبّاس افندي يكنفهم بظلّه ويتعاهد جميعهم بفضله، وكان أحسن الله منقلبه مستوفياً شروط الرّياسة، ذا وقار في رسوخ الجبال ومهابة يقف عندها الرّئبال، وحشمة لا تُرى إلاّ في الملوك أو في صناديد الرّجال، ومع هذا كلّه كانت مجالس حكمته مطرّزة باللّطائف، ومحاضر جدّه مهلهلة بالرقائق، وكانت رسائله على كثرتها تُتلى وتُؤثر، وتحفظ حفظ النّفائس في الخزائن وتدّخر، وإنني لأحفظ له كلمات من كتاب مداعبة بعث به إلى أحد أصحابه من شعراء بيروت وهي ”صيدك في صيدا، وحيفك في حيفا، ونفخك في الصور، ونقرك في الناقور” تعلم من هذه الكلمات المعدودة ملكته الأدبيّة، وقدرته على التّصرف بزمام العربيّة. مع أنها ليست لغته الأصليّة.
ولو وسع المكان لأوردنا له كثيراً من بدائع التّراسل الدّالة على تمام ملكته، وسموّ طبقته. وكانت له مع هذا العاجز مراسلات متّصلة باتّصال حبل المودّة، وعمران جانب الصّداقة، ومراراً قصدت عكا ولا غرض لي فيها سوى الاستمتاع بأدبه الغضّ والاغتراف من علمه الجمّ، واوردته مرّة على الكلام في موضوع العقيدة البابيّة بدون أن أسأله عن ذلك رأساً، بل كنت أجيء إليه من باب المعاريض استطراقاً، وأحاول أن أحمله على هذا البيان استطراداً، فسألته عما إذا كان من الممكن تمثيل الصّفات الإلهيّة في أحد البشر إشارة بدون تصريح إلى ما يقال من كون الباب أو البهاء هو مجلّي الصّفات الرّبانية على الأرض، فأجابني بأن الصّفات معان، والمعاني لا تتجسّم ولا تتشخّص، وأن المجردات لا تتجسّد، وأفاض في هذا الموضوع بالنّفي وتبيين وجوه الاستحالة. فأجبته: ”فلماذا يقال إذاً أن بعض البشر يمثلون الصّفات الإلهيّة على الأرض أو أنّهم مظهر الألوهيّة في الخلق؟”
فقال لي: ”ليس الأمر كذلك ولكن الحديث يستفيض من القديم بقدر استعداده.” وكررها: ”بقدر استعداده، بقدر استعداده”
وإنّني أتذكّر أنّه كان يشرح مرةً عقيدة القضاء والقدر فقلت له: ” إلا أن هناك من يقول في التّعريف ما هو كذا وكذا” فقال: و”هؤلاء هم العوام”. فقلت له ”كلاّ بل من العلماء من يقول هذا”. فقال: و” العلماء فيهم عوام أيضاً”.
وممّا نعلمه أن عبّاس افندي بعد إعلان الدّستور العثماني وانطلاق حريّته أن يذهب أين شاء، سافر إلى أمريكا، وتعاهد المريدين الذين له هناك. وبعد أن أقام بها مدّة يخطب ويعظ ويبثّ الدّعوة، جاء إلى أوربا وطاف على المريدين الذين فيها، ثمّ قفل إلى عكا، وبقي فيها إلى أن لبّى دعوة باريه في حيفا سنة ١٩٢١.»
المصادر
شكيب أرسلان، حاضر العالم الإسلامي، المجلد الثاني، الجزء الثالث، ص ٣٥٨-٣٦٠