مئويّة أسفار عبد البهاء
وصول عبد البهاء إلى أرض الكنانة
مائة عام مضت على زيارة عبد البهاء لمصر في طريقه إلى بلاد الغرب، توقّف حضرته أثناءها لعدّة شهورفي الأسكندرية قبل استئناف سفره، تمكّن خلالها من إزالة الشّكوك والمفاهيم الخاطئة التي حامت حول الدّيانة البهائيّة، فأضحت زيارته موضع ترحيب حكومة مصر وقادتها. وإحياءً للذكرى المئويّة لهذا الحدث التّاريخيّ نوجز بعضاً من أهميّته وآثاره الرّوحانيّة التي مازالت تُشعّ طاقتها وأنوارها في الآفاق.
شاء القدر أن يقيم عبد البهاء (عبّاس أفندي) في مصر عدة شهور كانت فيها الأسكندريّة مقرّاً له، ثم اتّخذها محطّاً لذهابه وإيابه إلى ديار الغرب. وتمكّن حضرته أثناء هذه المدّة من استعادة شيئ من العافية مكّنه من استئناف السّفر، كما أفاض حضرته في تلك الأيّام على أهل مصر، وعقولها من حكمته ما نرى فيه اليوم بعثاً للآمال في نهضةً روحانيّةً جديدةً، وتحقيقاً للوعد الإلهيّ بتبديل الأرض وأحوالها. وإحياءً للذّكرى المئويّة الأولى لذلك الحدث التّاريخيّ نستعيد الآن بعضاً من فواضل تلك الأيّام.
في التّاسع عشر من سبتمبر/ أيلول عام ١٩١٠ طالعت جريدة الأهرام قرّاءها بخبر بدا لأكثر المصريّين مُبهماً، جاء فيه:
”وصل عبّاس أفندي زعيم البابيّة إلى بورسعيد منذ بضعة أيّام تاركاً مقرّه في مدينة عكّاء، فتوافد أتباعه الإيرانيّون في القطر المصريّ إلى ثغر بورسعيد للتّبرّك برؤيته… وقد تضاربت الأقوال في سبب مجيئه فقال خصومه أنّه ترك عكّاء مخافة أن يناله الأذى من الحكومة الدّستوريّة… وينكر أتباعه هذه التّهمة ويقولون … هو قد جاء للتّداوي بهواء مصر من ربو أصابه، ولابد أن تظهر الحقيقة من وراء جدال الفريقين وبحص (كذا) الخصمين“*1*
لم يكن عبّاس أفندي الذي تسمى بـ ”عبد البهاء“ معروفاً في ذلك الوقت لعامّة المصريّين، ولا کانت حقيقة البابيّة والبهائيّة، مما أكثر من حولهما الهَجَس. وأغلب الظّن أن ّقرّاء الأهرام لم يستعيدوا إلى ذاكرتهم عند مطالعة هذا الخبر سوى بعض الأراجيف التي شاعت عن البابيّة والبهائيّة، ثم انصرفوا إلى المشاغل الكثيرة في حياتهم. فقد كانت مصر في تلك الأيّام مسرحاً لسياسات واتاجهات فكريّة متضاربة.
فبينما كان الاحتلال البريطاني دائباً في إحكام قبضته على شؤونها، كان وعي أبنائها المتزايد ينشد الحريّة الكاملة.
وبينما كان فريق من مفكّريها يتطلّعون إلى تحقيق النّهضة المصريّة على مثال ما نهض به أهل الغرب، كان يقاومهم الذين يستنجدون بالسّلطنة العثمانيّة المترنّحة ويروّجون للجامعة الإسلاميّة.
وبينما أحيا تعيين بطرس غالي باشا رئيساً ”للنّظّار“ آمال الأقباط في المساواة بينهم وبين المسلمين في تولّي المناصب العامّة، إذا باغتياله بشُبهة الخيانة للوطن يحطّم أحلامهم، ويستثير الخلافات الدّينيّة ويهيّئ المناخ للعداء والنّزاع الطائفيّ.
في تلك الظّروف المضطّربة كان مجيء عبد البهاء إلى مصر، خير ما يواسي أهلها، ويطمئنهم أن الأزمات التي تحيط بهم هي بقايا عالم قديم قد انطوى بساطه، وستبدل الأرض في يوم قريب يُنهي الصّراع السّياسيّ ويقضي على الخلاف الطّائفيّ، ويوحد البشرية في ظلّ الأمن والسّلام… فقد حان الوقت لتأسيس عالم جديد، وهو الآن بصدد حشد مواليه وأهله من كل حدب وصوب.
النهر الممدود
نهر غير محدود،غيث أنزلته السّماء، عذب رقراق، يفيض في كلّ حين،لا يخلف الميعاد، يحيي الأرض وما عليها، مقصد العاشقين، نعمة الواردين، روىً الشاربين، فتبارك أحسن الخالقين