مئويّة أسفار عبد البهاء
مغزى سفر عبد البهاء إلى بلاد الغرب
أيّ محاولة لتقديرأهميّة سفر عبد البهاء يجب أن ترتكز على استخلاصه لمبادئ الدّين البهائي من كلمات بهاء اللّه ونشرها في العالم من خلال أحاديثه العامّة والخاصّة التي خلقت قوّة دافعة لتغيير المفاهيم القديمة البالية بصورة لا راد لها مازال مفعولها سارياً في أوصال العالم ونالت الاعتراف بأنّها روح العصر.
تقدّمت الإشارة في مقال سابق إلى أن الباعث الأوّلتقدّمت الإشارة في مقال سابق إلى أن الباعث الأوّل لسفر عبد البهاء كان عزمه على دعم جهود البهائيّين في الغرب، إلا أنّ ما أسفرت عنه أسفاره -كما سنتبيّن من متابعة تنقّلاته- قد تعدّى كل ما يمكن أن تحتمله كلمة الدّعم من معاني. لقد سبق لحضرته أن تسلّم من البهائيّين في أمريكا الشّماليّة عدّة دعوات تلتمس وتلحّ في التماسها للتكرّم بزيارتهم ودعم جهودهم. ولكن أنّى لسجين سلطان عاتي أن يجاوز الأسوار المغلقة عليه، فضلاً عن سفر يقوده إلى أقصى شمال الكرة الأرضيّة.
وفجأة أفرجت حركة الاتّحاد والتّرقي التّركيّة عن السّجناء السّياسيّين للدّولة العثمانيّة، فاستوضح المكلّفون بمراقبة عبد البهاء عن ما إذا كان هناك تغيير في وضعه، فجاءهم ردّ الآستانة مؤكّداً أنّ حضرة عبد البهاء أيضاً أصبح حراً طليقاً. فكان في ذلك إحياء لأمل البهائيّين في الغرب ليعاودوا إلحاحهم في دعوته.
بعد أن أتّم تنفيذ وصيّة والده بإيداع رفات حضرة الباب في المقام الذي أعدّه في ذات الموضع الذي عيّنه بهاء اللّه على جبل الكرمل، كرّس عبد البهاء ما بقي لديه من قوة بدنيّة لإنجاز مشروع سفره إلى الغرب الذي ينكشف لنا الآن بوصفه أهّم عامل بدّل قواعد التّفكير في كل من الحياة الخاصّة والحياة العامّة لعالم لم يعد قادراً على تبيّن نفعه من ضرّه؛
عالم اتّخذ الحرب وسيلة لحلّ خلافاته السّياسيّة، ولمناصرة معتقداته الدّينيّة، ولتحقيق أطماعه الاقتصاديّة؛ عالم صنّف البشر وقسّمهم لطبقات متفاوتة في قدرها، وزكائها، وقدراتها تبعاً لأوصافها البدنيّة؛ عالم بدّل الأديان السّماويّة إلى حواجز من الكراهية تفرّق بين البشر؛ عالم يقدّر كل شيئ بقيمة عائده الماديّ، ويستبعد الرّوحانيّات من حياته العامّة؛ عالم جعل اللّهو والمُتع غاية الوجود الإنسانيّ.
طوال السّنوات الثّلاث التي استغرقها سفره، لم يكلّ عبد البهاء أو يتوانى في مواصلة جهده الحثيث لدعم القوى الكفيلة بالعمل رويداً على تغيير العالم خلال السّنوات والقرون اللاّحقة، لأن التّغيير الكلّي الذي قدرّه اللّه لهذا الدّور، ورسم خطّته عبد البهاء لابد أن يختمر في أذهان النّاس ويرسخ في ضمائرهم لكي يؤتي ثماره النّاضجة. لذا فإنّ تقديرنا المبكّر لأهمّية تأثير المفاهيم والمبادئ والنُّذُر التي أعلنها ونشرها عبد البهاء في المجامع العامّة والمجالس الخاصّة، أثناء هذا السّفر لن يأتي بغير القليل من أهميّته الحقيقية التي ستكشف عنها السّنوات المقبلة.
ولكن مهما عجز تصوّرنا الآن عن تحديد جملة الآثار الحقيقيّة لما ستحدثه بيانات ونُذُر عبد البهاء في مسيرة شئون العالم في الحال والاستقبال ـ رغم هذا العجز لن يكون لإحيائنا الذّكرى المئويّة الأولى لهذا الحدث معنى بدون بذل محاولة – مهما قلّ شأنها – للكشف عن دوره التّاريخيّ في لفت أنظار قادة العالم إلى ضرورة تطبيق مبادئ وقيم ومعايير جديدة تتناسب مع ما جدّ على هذا الكوكب من تغيير لم يسبق له مثيل.
فأخيراً وبعد ما ينوف على خمسين عاماً من إعلان بهاء اللّه عن رسالته الإلهيّة، تمكّن عبد البهاء، بوصفه المرجع الأعلى لهذا الدين، أن يبسط ويفصّل مبادئه وتعاليمه للجمهور مباشرة ولقادتهم السّياسيّين وزعمائهم الدّينيّين، وإطلاعهم على الحلول التي يقدّمها للمشاكل والأزمات المهدّدة لأمن ومستقبل بني الإنسان. لاشك أنّ أحاديث حضرة عبد البهاء وبياناته وسّعت آفاق مستمعيه الفكريّة، وما زالت تُصحّح بالتّدريج فَهْمَ النّاس للدّين، وتُعدّل نظرهم في تدبير الشئون العامّة لمجتمعاتهم، وتُطهّر تفكيرهم من أدران الماديّة المفرطة، وتوائم بين الاحتياجات المادية والمبادئ الروحانّية للرّسالات الإلهيّة، بحيث ينتشر تأثيرها في سائر أنحاء العالم. مما ستتاح لنا الفرص لمناقشته في المقبل من الأيّام.
ما يعنينا التّركيز عليه الآن هو أهمّ أحداث زيارة عبد البهاء لمصر، فمنذ أن حلّ حضرته بأرضها – التي اختارها للاستشفاء ولتجديد قواه أثناء غدوّه ورواحه – فرغم أنه طوال إقامته فيها التي نيّفت على السّنة لم يعقد أي اجتماع عموميّ، مكتفياً بتبادل الاتصال بالسلطات الرسمية، واستقبال زائريه والتّحدث إليهم في مقرّه برمل الأسكندريّة، ومع ذلك فقد استرعى وجوده انتباه مفكّريها وزعمائها وأهل الصّحافة فيها، فأكثروا من الاتّصال به – ومع أنّه لم يطرق موضوع الدّين البهائيّ إلاّ عرضاً، فقد كان فيما نشرته الصّحف ما يغني الجمهور المصريّ عن الاجتماعات العامّة، ويكفي لاعتباره إعلاناً للدّين البهائيّ يلقي بمسئوليّة الاستزادة من تعاليمه، والوقوف على مبادئه وغاياته الرّوحانيّة على عاتق الذين بلغ إلى علمهم.
ولكي يكون فهم أهميّة توقف عبد البهاء في مصر موضوعيّاً بقدر الإمكان، وبيان ما عنته إقامة تلك الشّخصيّة الفذّة بين أهلها، ينبغي أن تُقاس أهميّة هذه الزّيارة بمعايير معتمدة على آثار ملموسة ونتائج مشهودة مثل: نوعيّة زائريه ومستقبليه، ومكانة المفكّرين الذين اهتمّوا بلقائه والكتابة عن الانطباع الذي تركته كلماته في نفوسهم، وحرص الصّحف المصرية على تتبّع أخباره في أرجاء العالم الأخرى.