مئويّة أسفار عبد البهاء
زيارة عبّاس محمود العقاد لحضرة عبد البهاء
كان لعبد البهاء أينما حلّ مجالس يقصدها العلماء والمفكرون، يشدّون إليها الرّحال ليستفيضوا من علمه وحكمته بقدر ما يلتمسون فيها السّلوان والسّكينة، كما أفصح عنها الكاتب الإسلامي المعروف الأمير شكيب أرسلان، وكان من ساكني بيروت حين قال: ”مرارًا قصدتُ عكّا ولا غر لي فيها سوى الاستمتاع بأدبه الغضّ والاغتراف من علمه الجمّ…“*1*.
ولم يختلف الحال أثناء وجوده في مصر حيث قصد مجالسه العلماء والصّحفيّون والمفكرون، وسبق أن ذكرنا ما نشرته المؤيد بعد اشتراك صاحبها الشيخ علي يوسف*2* في بعض هذه المجالس، ونضيف الآن الانطباع الذي بقي حيّاً في ذهن الأستاذ عبّاس محمود العقّاد لعشر سنوات بعد حضوره أحد مجالس عبد البهاء حيث كتب في عدد يناير ١٩٣٠ من مجلة الهلال تحت عنوان ”ساعة مع عبد البهاء“ جاء فيه
«ومن بين الأديان التي يتحدّثون عنها ويكتبون في موضوعها كثيراً في هذه الأيّام دين البهائيّة الذي يضيف غرابة الجدّة عندهم إلى الغرابة الشّرقيّة، ويستقبل أحلام أفئدتهم بأمل لم يجرّبوه وقداسة عصريّة تعجب الذين يهيمون بالقداسة ولا ينسون الهيام في هذا العصر بالمخترعات والعلوم. وقد اطلعت على مؤلف حديث في البهائيّة وقرأت بعض النّبوءات التي يتنبأ بها كُتّابُهم لهذا المذهب فأحببت أن أدوّن لقرّاء ”الهلال” ذكرى قديمة تعلّقت بخاطري من ذكريات زعيمه عبّاس عبد البهاء يوم أن كان في الاسكندريّة قبل بضع عشرة سنة وكنتُ في بداية عهدي بدراسة الأديان والبحث في أمر العقائد… وذهبتُ إلى الأسكندريّة فلقيني صاحب مشغول بأمر الدّين كان يتردّد على عبّاس أفندي ويودّه ويوشك أن يميل إلى عقيدته. فرغّبَني في زيارته وقال لي: إنّك سترى بعينيك مبحثاً حيّاً من هذه المباحث التي يسرّك أن تطّلع عليها في الكتب، واتفقنا على زيارته عصر يومٍ من أيام الاستقبال عنده في الدّار التي كان يقيم فيها بضاحة باكوس.
فلمّا دُعينا إلى مجلسه إذا شيخ وقور أشيب يلوح عليه سمت الحنكة والعلم أكثر من سمت النسك والنّبوءة، وإذا بحضرته كاتب قد انتحى بكرسيه جانباً من الغرفة على مسافة خطوات يتلقّى من عبد البهاء رسالة علمنا فيما بعد أنّها مكتوبة إلى شوكت باشا وزير الحربيّة التّركيّة. فحيانا تحية جميلة، وأشار إلينا بالجلوس فجلسنا ومضى يُتمّ إملاء الرّسالة حتى فرغ منها وجيء لنا بأقداح الشّاي في هذه الآونة يحملها رجل من أثرياء الفرس تُحسب ثروته بالألوف، فوقف حتى شربنا وقفة المتهيّب الخاشع، ثم أخذ الأقداح متراجعاً وهو يستقبل عبد البهاء بوجهه حتى خرج من الباب.
وكانت السّماء تمطر رذاذاً ثم تدفّق المطر غزيراً نحو نصف ساعة ثم همّ بالاقلاع، وكنّا في غرفة – أو شرفة – مُسَوّرة بالزّجاج مقفلة النوافذ نطلّ منها على حديقة الدّار وننظر إلى الأشجار يتلاعب بها الهواء ويجلوها المطر فتزداد رواء ونضرة فنظر إليها عبد البهاء طويلاً ثم التفت إلينا وكأنّه يفيق من سبات أو يوقظنا من سبات، وقال: «سبحان اللّه! لكلّ شيء رزقه، فحيثما كان الشّجر نزل إليه المطر.»
فقلت: «أو حيثما كان المطر نبت هناك الشّجر.»
فنظر إليّ متأمّلاً وقال: « أو هو كذاك ! »